اغتيال مدينة

تسللت برشاقة أحسد عليها من بين الجدران الأربعة التي اتخذتها رغمًا عني سكنًا وملاذًا من الكورونا بعد أن وصلت لمرحلة ما قبل الاختناق وقررت الهروب من مسكني بأحد أحياء القاهرة الجديدة الصحراوية إلي مدينتي الرائعة بورسعيد هروبًا من الصحراء الشديدة الحرارة إلي الهواء المنعش ملتقي البحرين الأبيض المتوسط والأحمر.
ورغم تحذير بعض الأصدقاء لي أن بورسعيد تكاد تكون موبوءة بالكورونا وأنها تحتل المركز الثاني في الجمهورية بعدد الإصابات بها، إلا أنني قررت المجازفة والسفر لمعشوقتي التي عشت بها أحلي سنوات عمري.
وسرحت بخيالي قليلًا فتذكرت ما عاناه أهالي تلك المدينة في الماضي القريب من ظلم وقهر لا يتحمله بشر، فبعد الحروب المتعاقبه ٥٦ و٦٧ و٧٣ والتدمير شبه الشامل الذي ألم بهم وما عانوه وقت التهجير، كافأهم السادات بالمنطقة الحرة التي لم تدم طويلاً

مؤمن المحمدي
صديقي، لما قلت له فكرتي، إنه مفيش حاجة اسمها حق ومستحق، والحياة معارك، وكل واحد بـ يحصل على “اللي يقدر عليه” قال لي:
في نقطة الحق، هـ أضرب مثال: لو أنا بـ أشتغل في مكان، والمفروض في ترقية بنسعي ليها أنا وأقراني، المفروض إن الترقية دي تعتبر معركة، ومحتاجة أسلحة زي مثلا إني آخد كورس وأطور مهارة معينة، وأحقق تارجت معين.
أنا حققت كل دا و بجدارة، وجه واحد من أقراني، وصل عن طريق معارف لرئيس مجلس الإدارة، وأخد الترقية من غير ما ياخد كورس ولا يطور مهارة ولا يحقق تارجت.
هل، في الحالة دي،ما ينفعشأقول إن دا كان حقي، واتسرق مني؟
قلت له: طيب، دلوقتي إحنا بـ نتكلم عن إيه؟أولا، مؤسسة عملدي “المجتمع”، ثانيا، موظفين/ عمال، دول أفراد المجتمع، ثالثا، الموظفين دولمش متساويين؛ متقسمين درجات فيها أعلى وفيها أدنى، وكل ما تطلع فوقتحقق مكاسب أكتر.
رابعا، عندنا عدد من الموظفين، نفترض إنهم خمسة، عند درجة ما، ولـ تكن الدرجة الرابعة. خامسا، الموظفين الخمسة دولعند كل واحد منهم “إمكانية”يصعد لـ الدرجة التالتة (الأعلى). سادسا، رغم وجود إمكانية التصعيدعند الجميع، إحنا هـ نصعد واحد منهم بس.
هنا بقى نقف ونسأل:ليه؟ما نصعدهم كلهم، إذا هم متساويين في الدرجة، ويمتلكوا الإمكانية، يبقى ليه نفضل واحد منهم عن واحد؟
الإجابة:عشان دا مش “متاح”، لا فيه إمكانية مادية تسمح بـ دا، ولو الدرجة الأعلى دي هـ تمنح سلطة، مدير مثلا، ما ينفعش السلطة تتقسم.
اختيار واحد فقط لـ التصعيدمالوش أبعاد أخلاقية، دي حاجة تفرضها “الفايدة” و”المصلحة”. على العكس تماما، من الناحية الأخلاقيةفيه “ظلم” أكيد هـ يقع على البعض، مهما حاولت تعمل معايير “عادلة”، بل إنه غالبا، لو إنت حطيت معايير، مش هـ تتحرى فيها العدل، بـ قدر ما تتحرى الفايدة.
ليه؟ لـ إنه العدل غير قابل لـ القياس، أو خلينا نقول القياس الدقيق، بينما الفايدة ممكن تحسبها، على الأقل بـ صورة أكثر تحديدا.
فـ يا صديقي، الدودة في أصل الشجرة، والنظام نفسهفيه معضلة أخلاقية جمة، لا يمكن تجنبها.
نتيجة عدم إتاحة الفرصة لـ الجميع، هـ يحصل تنافس، التنافس دا معركة، المعركة دي محتاجة أسلحة، كلامكيا صديقي يفترض إنه هذه الأسلحةتنقسم إلى:أسلحة مشروعة (الكورس/ المهارات/ التارجيت/ … إلخ)وأسلحة غير مشروعة (علاقات شخصية/ رشوة/ … إلخ).
ثم يفترض إنه “الحق”، مرتبط بـ مشروعية الأسلحة المستخدمة، فـ ما ينفعش نقولإنه مفيش حد له “حق” في حاجة، ويكاد كلامك يضع قاعدة:
“استخدامك الأسلحة المشروعةيمنحك الحق في كسب المعارك”.
ولو أنا فهمت صح، خلينا نقول الآتي:
مين قال لك يا صديقي، إنه الأسلحة فيها “مشروع” وفيها “ممنوع”، وفي المطلق كدا؟ مشروعية أي شيء في الدنيامسألة نسبية، ومرتبطة بـ النظام. من ثم، من يحدد مشروعية شيء من عدمههو صاحب السلطة، مش لـ إنه صاحب “الحق” في دا، بل لـ إنه دي “طبيعة الأمور”، هي ماشية كدا طول عمرها.
في المثال المذكور: مين قال إنه الكورس/ المهارات/ التارجيت/ … هي دي المعايير السليمة والعادلة والمشروعة؟إنت اللي قلت كدا؟طيب، روح رقي نفسك، إنما دا مش أكيد.
ما يمكن المنصب دامحتاج علاقات شخصية، أكتر ما هو محتاج كفاءة! ما يمكن إنتطورت مهاراتك في الاتجاه الخاطئ، إحنا عايزين حارس مرمى، وإنت بـ تتدرب تشوط ع الجون! ما يمكنإنت ممكن تحقق التارجيتوإنت في درجتك، بس لما تشيل مسئولية في درجة أعلىما تقدرش تحققه، بينما ما عندكش كفاءة عاليةفي المسئولية الجديدة!
ما يمكن أساساالمنصب دا محتاج شخص ديرتي، وهو اللي يقدر يجيب دخل لـ الشركة، عشان إنت شخصيا تلاقي تقبض!
مليون حاجة ممكن نفكر فيهاتخلي تقييمك لـ المشروعية من عدمهاغير سليم. لاسيما وإنه معظم الناس شايفين إنهم يستاهلوا أكتر من اللي هم فيه، من أصغر موظفلـ حد المدير، المدير نفسهشايف إنه يستحق يدير شركة أحسن من كدا شوية.
فـ المشروعية عايزة مرجعية، إنت خصم، ما ينفعش تبقى حكم.
طيب، ماذا إذا كانت الأسلحة غير مشروعة، بناء على قوانين العمل نفسه؟ أي فيه شخص مخالف لـ شروط المؤسسة/ الدولة/ النظام العالمي؟ يبقى في الحالة ديتختصمه، ونفتح فايل جديد لـ معركة جديدة، وهي “إثبات” مخالفته لـ القانون.
تلجأ ساعتها بقى لـ رئيس مجلس الإدارة، مكتب العمل، المحكمة، الأمم المتحدة، مجلس الأمن، ولما حد منهم “يحكم” لك، فـ الحكم عنوان الحقيقة، ويبقى دا “حقك”، أو خليني أستخدم تعبيري المفضلدا “حدك”.
هو حدك أو حقك أو زي ما تسميه، لـ إنك حصلت عليه فعلامش لـ إنك شايفإنك تستاهل تحصل عليه.
بـ اختصار، المشروعية عايزة مرجعية، والمرجعية عند النجار، والنجار عايز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عايز بيضة، وحضرتك عارف كويس: البيضة تلاقيها فين، ولا مفر من ذلك المكان، لا مفر.

مقالات

Comments are disabled.